الحرير/
بقلم/ عامر جاسم العيداني
من مدينة كانت تُقرأ فيها المعلقات وتُدوّن فيها قواعد اللغة وتُصاغ فيها أسس الفلسفة والمنطق نسمع اليوم ضجيجًا غريبًا لا يشبه البصرة ولا أهلها. ضجيج يأتينا من شاشات الهواتف ومن بث مباشر ملوّث ومن نجوم صعدوا فجأة فوق أكتاف السخرية والسقوط الأخلاقي لا فوق منابر المعرفة.
لم يعد الأمر مجرّد زوبعة إعلامية عابرة بل أزمة هوية ووعي وذوق تتسلل إلى وجدان الناس وتعيد تشكيل صورة البصرة في مخيال أبنائها قبل الآخرين.
البصرة التي كانت منارة فكرية أضحت مادةً يوميةً لمقاطع رخيصة وقصص مفتعلة وحوارات تشكّك في كل ما هو جميل وأصيل.
نسأل هنا بضمير صادق وحرّ أين أنتم يا صنّاع القرار الثقافي؟
أين أنتم يا أساتذة الجامعات ويا فنانين وشعراء ونقاد؟
أين أنتم يا أصحاب القاعات ودور النشر والمراكز الثقافية؟
أين أنتم يا مدراء الإعلام والتربية والتعليم؟
إن الانسحاب من ساحة الفعل الثقافي وتركها فارغة هو ما سمح لتجار “الترند” أن يحتلوا الفضاء العام ويحولوا الشاشات إلى ساحات ترويج للتفاهة والخوف والسخرية من كل قيمة نبيلة في ظل هذا الصمت نخسر معركة الوعي يوميًا.
التفاهة ليست مجرد محتوى ترفيهي بل منهجية ناعمة في تدمير الذوق العام وتشويه القيم ، هي التي تقنع الشاب أن لا جدوى من العلم وتُشعر الفتاة أن الثقافة عبء وأن المظهر هو كل شيء وهي التي تزرع في المواطن شعورًا بعدم الاستقرار وفقدان الأمل وانعدام الثقة بالمجتمع.
كل مقطع ساخر من معلم أو طالب أو مسؤول أو من مظاهر البصرة العريقة ليس مجرد “مزحة” بل إعادة برمجة جماعية للعقل الجمعي.
في مدن مثل البصرة لا يمكن مواجهة هذا السيل الجارف من الانحدار الإعلامي إلا بالثقافة.
وليست الثقافة هنا خطاباتٍ نخبوية ولا أمسيات محدودة الحضور بل مشروعًا شاملًا وواقعيًا يخرج إلى الناس في الأسواق ، في المدارس ، في الأحياء ، في المقاهي وفي الشارع.
الثقافة يجب أن تُستعاد من النخبة إلى المجتمع وأن تلبس لبوس الحياة اليومية لا أن تبقى مؤونة محفوظة في رفوف المؤتمرات.
ماذا نفعل الآن؟ (مقترحات عملية موجهة للمسؤولين والمؤسسات)
- مهرجانات ثقافية شهرية تموّلها المحافظة أو الجامعات
مهرجان للشعر.
مهرجان للقصة والرواية.
مهرجان للفن التشكيلي.
مهرجان للسينما والمسرح
مهرجان للتصوير الفوتوغرافي
مهرجان للافلام القصيرة
معارض كتب بالتعاون مع دور نشر عراقية وعربية.
- إطلاق مسابقات طلابية داخل الجامعات والمدارس
بإشراف أكاديمي لتحفيز الإبداع في:
الشعر والمقالة.
الكتابة الصحفية الهادفة.
المشاريع الفنية والثقافية.
- دعم منصات إعلامية بديلة
تمويل ورعاية صفحات ومواقع تقدم محتوى ثقافيًا وإعلاميًا رشيدًا يشرف عليه مثقفون شباب من البصرة وتُقدم له تدريبات ودورات متخصصة.
- بناء قاعات حديثة وإعادة تأهيل المراكز الثقافية والمكتبات العامة وفتح أبوابها للأنشطة المجانية واقامة ندوات عروض أفلام وثائقية ولقاءات شبابية.
- مبادرة “أدباء وفنانون في المدارس”
برنامج شهري تستضيف فيه المدارس كتّابًا وشعراء وفنانين للتحدث مباشرة مع الطلاب وتحفيزهم على الإبداع والقراءة.
- إنتاج أعمال فنية وأفلام قصيرة عن البصرة
تُظهر الوجه الحضاري والتراث الثقافي والأسماء اللامعة التي أنجبتها المدينة عبر تاريخها.
أيها المسؤولون: البصرة تستحق
أيها السادة :
نحن لا نطلب معجزات ولا نحمّلكم فوق طاقتكم.
نطلب فقط أن تتحملوا مسؤولياتكم الأخلاقية والتاريخية تجاه مدينة لا تزال تنادي أبناءها.
البصرة التي علّمت النحو للعرب وصدّرت الفقه والفلسفة والشعر لا يجوز أن تُترك اليوم ضحيةً لمن يعبثون بعقل أهلها ويستهزئون بتراثها.
افتحوا الأبواب للثقافة.
أعيدوا الكلمة إلى أصحابها.
واجعلوا من مواجهة التفاهة مشروعًا وطنيًا.
خاتمة: مسؤولية مشتركة
ليست المعركة بين مثقفين و”يوتيوبرز”، بل بين مشروع وعي ومشروع هدم.
فليكن مشروع البصرة هو ترميم الوعي لا التفرّج على انهياره ولنرفع الصوت معًا من كل موقع:
من الجامعات، من الجمعيات، من النقابات ، من الاتحادات ، من دواوين الشعر، من المقاهي، من صفحات التواصل..
أنقذوا البصرة من التفاهة بالثقافة.