حاجة واجتياح !

الحرير/

بقلم/حسين الذكر

في مؤشر مهم على تحسن الاخلاقيات العامة وسيادة الضمير الشخصي كرقيب ذاتي اهم من بقية السلطات يقال ان زلزالا ضرب احد المدن اليابانية .. التي اهتزت بناياتها لثوان معدودة توقفت معها الحياة تماما وقد رمى المواطنون في الاسواق العامة الحاجيات حتى المشترات مدفوعة الثمن من ايديهم .. وبعد زوال الخطر وتحري اجهزة الشرطة والرقابة العامة تبين : انه لم تسجل ولا حالة سرقة واحدة في جميع مفاصل المدينة ! بحالة شبه مثالية نادرة الحدوث وان دلت على شيء فانها الاقرب الى سد حاجات مواطني المدينة سيما في حاجتها العامة مما عزز ثقة المواطن بنفسه ومصالحة ضميره والقناعة بذاته والقواعد التنظيمية الحاكمة في المدينة .
( صاحب الحاجة اعمى لا يرى الا قضاء حاجته ) .. هكذا قالت العرب منذ قديم الزمان .. اذ تتبعت اصل هذه الحكمة الواقعية جدا ولم اجد له اصل تاريخيا قريبا وكانها وليدة الوعي نشات وترعرعت مع الانسان وكانت تعبير عن حاجاته الاساسية ( المال والجاه والشهوات والبنين وغير ذلك من ملذات الحياة عصية الاستغناء عنها ) .. اذا ما جنح الانسان بحثا عن تلك الحاجات اصبح تابعا مصغيا لدرجة يصعب معها تمرير المفاهيم الاخلاقية القيمية دون استقرار .. بصورة تعبر تماما عن احقية ( العقل السليم في الجسد السليم ) فاي قصور في تلبية حاجات الجسد حتما ستؤدي الى تقصير في اداء مهامه بصورة اقرب للتقوى منها للفجور .

في الوسط الاعلامي كنت اوجه النقد حد القسوة احيانا على بعض قيادات المفاصل العامة اذ كنت امتلك القدرة والجراة والصراحة في التشخيص والاعلان عن مكامن الخلل عبر وسائل الاعلام دون ان اسيء الى ذات المسؤول فالتشخيص يمكن اسميه فني او اداري بحت .. لذا لم اتعرض طوال عقود من العمل والنقد المستمر لاي ضغوطات او مشاكل شخصية الا ما ندر بل على العكس امتلك علاقات حسنة مع المسؤولين .. وقد تساءلت مرة في مقابلة تلفزيونية عن ذلك ، فقلت لان مهمتي الصحفية جعلتني بمكان ناقد ويجب ان اؤدي واجبي اتجاه الملف والمجتمع والوطن من باب الاصلاح ليس الا .. وقد سألني لاحقا احد الاعلاميين في برنامج عام قائلا : ( بصراحتك المعهودة لو كنت انت المسؤول ماذا تصنع) ؟ .. فقلت بذات الصراحة والجرأة : ( سوف لن اقدم افضل مما يقدمه اللذين انتقدهم حاليا لان الخلل ليس فيهم بل بالنظام الرقابي والمحاسباتي المسؤول عنهم لان حاجات الانسان واحدة ومدام المسؤول يعمل بحرية بلا رقابة بلا حساب وكتاب في وسط وبيئة شبه سائبة حتما ستشطح شهوات الانسان حد المرتع فالانسان يقدم حاجاته الذاتية والقريبة منها على اي شيء سواها سيما في بيئة خالية من الردع ) .
في التاريخ سؤل سقراط عما يعانيه طلابه من شظف عيش وجلد ذات ، فقال : ( كلما قلت حاجات الانسان المادية كان اقرب الى الاله وكلما ابتعد عن احتياجه للاخرين اصبح مستقلا في مملكته الذاتية واقرب الى الاستقرار والاحساس بالسعادة ) .
لم اكمل السادسة من عمري بعد .. وكان الاباء المتدينين يجبرون اولادهم على الذهاب معهم الى الجوامع اذ لم تتوفر انذاك ثقافة التمهيدي والروضة وغيرها من منافذ متاحة الان للصغار قبل دخولهم مدارس التعليم الابتدائي .. كانت انذاك وربما حتى الان ما زالت مساجد المسلمين يقدم فيها ليلة الجمعة بعد الصلاة الكثير من الطعام من الاسر المجاورة كجزء من ثواب على الميت يبقى يقدم اهله ما يقدرون عليه الى الجوامع والحسينيات المجاورة لهم .. وكانت الوجبات تصل الى المسجد قبل الصلاة وتبقى في غرقة مجاورة حتى يكالوها بعد الصلاة ويقرأون سورة الفاتحة .. وكنا مجموعة من الاطفال نصلي ونلعب قرب الجامع وبما ان الاكل شهي ويضم بعض الحلويات مما يشجعنا على دخول غرفة الطعام وتناول بعض اللقمات او الحلويات او الفاكهة والخروج قبل ان تظفر بنا عين الرقيب .. وقد لاحظت ان ابناء امام المسجد وكذا الخادم والمؤذن كانوا يقدمون في الاكل قبلنا واحيانا يمنعونا من الاكل مع الكبار فيما يتاح ذلك لابنائهم .

في احدى المؤسسات التي كنت اوجه النقد لها كلما سقط رئيس يات رئيس آخر بعنوان مصلح لكنه يقع بذات الشراك التي اسقطت سلفه وظل الوضع على ما هو عليه لسنوات طويلة برغم التهليل الاعلامي والتطبيل وتغير وسائل الرقابة والمحاسبة والمسؤولية فقد ظل الاداء العام للمؤسسة ضعيف يتخلله الكثير من الفساد .. وقد تيقنت لاحقا بعدم ضرورة توجيه النقد لانه اشبه بالنفخ بقربة مخرومة .. فالخلل ليس بالاشخاص بل في المنظومة التي تركت دون رقابة او كان الرقيب مستفيد ومشترك بذات الافة المضعفة للانسان والالة والمؤسسة . فطالما سقطت ادوات الردع اصبح من الصعوبة السيطرة على الحاجات الشخصية سيما في ظل بيئة يستشري الفساد فيها وينخرها الجهل العام وتنقصها الثقافة المجتمعية العامة .
يقال ان واليا ظالما عاش في احدى الحواضر والمراحل التاريخية التي تعج بالولاة الظلمة والاقسى انهم كانوا يحكمون باسم العدالة وعنوانها .. وان هذا الوالي عرف عنه الاعتناء التام والغريب ( بمطيته ) اكثر من شؤون الحكم حتى غدت مطيته عنوانا بارزا ومعيارا للراي العام يقيسون به مزاج وطبيعة الوالي وكيفية التعاطي معه . متى ما كانت مطيته بخير فان الوالي والامة بخير والعكس صحيح .. وقد ماتت المطية فمشت الجموع خلف نعشها الى مثواها الاخير وكانت تضم المسيرة الراجلة الحزينة المنكسرة علية القوم ووجوهها الذين اخذوا يعزون الوالي ويخففون مصابهم الجلل .. لكن حينما مات الوالي لم يمشي خلف جنازته احدا .

عن عامر العيداني

شاهد أيضاً

بين علي وعمر تسقط لغة الطائفية وتبقى قيم العدالة

الحرير/ بقلم/محمد حنون / نائب نقيب الصحفيين العراقيين لم اتعود يوما” ان اكون لسان حال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *