الحرير/
بقلم/حسين الذكر
قبل التتلمذ كان اخي الاكبر يعلمنا بعض الاخلاقيات ووجه سؤال : ( اذا اغلق باب الغرفة والشبابيك كيف يرانا الله ) .. الاجوبة كانت نسخة ذاتية لبراءة اطفال من رحم بيئة لم يعتريها الكثير من فخاخ التقنيات .. وقد ضحك الجميع على جوابي حتى تحول الى شبه طرفة يتناقلها معارفنا حيث قلت : ( سيدخل الينا من خرم مفتاح الباب )!
بيتنا وبيئتنا تعد محرمات وخطوط حمر تضع مصدات لاي محاولة لتجنيح العقل وتسريح الفكر .. كل شيء يسير نحو زاوية واحدة لا تسمح ولا تشجع اي محاولة تأملية لاختراق ( جدار الواقع السميك بما فيه من خرافات ومدلسات وربما مفخخات تناقلها اسلافنا الطيبين رحمهم الله ) . في البيت في الشارع في المدرسة في المسجد الحرص على الترسيخ والتعميم قائم ومقدم على ما خلاه .. طابور من المصائد الكامنة في طريق العقل تلك الجوهرة السماوية التي حبانا بها الخالق جل وعلا : ( اتحسب نفسك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر ) .. كل محاولات التفكير وأدت سلفا ما لم تسير بذات الاتجاه المرسوم .
عام 1991 مع بدأ الحصار والدمار والفقر العراقي كنت اتمشى في شارع المتنبي لاقتناء بعض الكتب حينما سالني مراسل احدى القنوات العالمية عن امنياتي ذلك العام ، فقلت : ( اتمنى ان اكون على بينة من امري وان ينتفي الالم العام ) .. بعد ان سمعها من المترجم طلب المراسل اعادة الاجابة – يبدو انه لم يفهم ما اردت –
.. ما اتذكره من تلك الحادثة الخطيرة ان المراسل ضحك قائلا عبر المترجم : ( شكرا على جواب لم اسمع مثله مذ حطت قدماي في العراق ) .
بعد 2003 تغير الواقع السياسي راسا على عقب الا ان واقع الحال التعليمي والتربوي وحرية التعبير لم تتغير جوهريا سيما في ظل ما يسمى بالانفتاح القسري والفوضوي .
تعلمت الكثير عما كنت عليه اذ لم يمر اسبوع دون قراءة كتابين او ثلاثة كما سافرت واكملت دراستي العليا والفت وكتبت وحاضرت .. وهنذا اعيش الربع الاخير من رحلة عمر جلدني الدهر فيها بفقد ولدي البكر اغلى واعز مخلوق على وجه الخليقة عندي والافجع والادمى على روحي وجسدي واخذت تعتريني حالة وجدانية تقربني اكثر من السماء كلما ضاقت سبل الحياة بمعناها العام ..
اصبحت استحضر ماساة العالم قبل وبعد كاس سم الفيلسوف واثناء مقصلة المسيح وما بعد ذبيح كربلاء وجميع مآسي التاريخ التي لا تمحى من وجدان الانسانية برغم فلسفة سياسة الهيمنة القائمة على محو الجرائم بجرائم اكبر . بدات اتلمس ابداع العالم واعجاز لا يمكن عده وحصره انه رحم مهول من توالد لا يمكن ادراك كنهه من قبل مخلوق قاصر .. شيئا فشيء بدا يترسب في اعماقي ما يمكن ان اسميه عقيدة بعيدا عن رواسخ العقد التي فرضوها علينا منذ الصغر .
في احد ايام شهر رمضان المبارك الذي اعيشه بحالة وجدانية عامرة كنت في مأدبة افطار حينما اطلق امام المسجد ما سماه مشروع ( مليون صلاة على محمد) .. فتعجبت وسالته على انفراد وتوجس ماذا لو عدلت قليلا في مشروعك : فنظر الي شزرا .. فقلت : ( نشترط مع كل صلاة على محمد ان يقوم المصلي بعمل ما بسيط من قبيل رفع اعقاب السكاير او ازالت اي عثرات في الطريق . بمعنى تحويل الصلاة اللفظية الى ترجمة عملية ) .. مع ان الاقتراح لم يرفض بشكل مباشر الا انه وضع على الرف حتى احدودب ظهري من ثقله وخنقني تراكم الغبار المنبعث منه .
الكثير من امنيات الشباب لم يعد لها طعم في مذاقاتي .. فالاستزادة المعرفية وتنوع توق الفكر ارق واجمل واعذب مما يتصوره عقل في جاه او وظيفة ومنصب وموقع ما .. الا اللهم ما يصب بخدمة الناس ويخفف اعبائهم كجزء من اهم العبادات التي ينبغي ان نصحح تعابير معناها ونرسخه في الضمير حتى يحال الى جزء اساس من سلوك الانسان العملي .. بعد تيقني ان الله غني عن العباد في جملة نحفظها منذ قرون لكن لم نفهم معناها ونسير بهداها كما ارادتها السماء فلا عبادة افضل من خدمة خلائق الله الذي اعجز عن ادراك كنهه في ظل قصور مسيرة وشهوات سيرة وتشوهات وسيلة كانت وما زالت تمثل الحد الادني من كبح محاولة كشف عظمت السماء وتواضع اهل الارض !