الحرير/منير العيداني
على وقع خطى المثقفين وعشاق الكتب في شارع الفراهيدي الذي تحول إلى رئة ثقافية تتنفس منها البصرة كل مساء جمعة، أضاءت جماعة البصرة الأدبية شمعة فكرية جديدة، مستمرة في حراكها الدؤوب لإعادة الاعتبار للكلمة ودورها في تشكيل الوعي. في أمسية اتسمت بالعمق الفكري والحضور اللافت طرحت الجماعة واحداً من أكثر الأسئلة جوهرية: ما هو الأثر الذي يتركه الأدب في بناء حياتنا وتكوين شخصياتنا؟
في ليلة بصراوية دافئة، اجتمع جمهور متنوع من الأدباء والنقاد والشباب وعموم المثقفين تحت سماء الأدب ليصغوا إلى الأديب علي عبد الحسين في جلسة حوارية حملت عنوان تأثير الأدب في تشكيل الحياة الشخصية لم تكن الجلسة مجرد محاضرة أكاديمية بل كانت رحلة تأملية في العلاقة الخفية والمتينة بين السرديات التي نقرأها والحياة التي نعيشها.
شارع الفراهيدي: أكثر من مجرد مكان
لم يكن اختيار مسرح شارع الفراهيدي للثقافة والكتاب مكاناً عشوائياً، فهذا الشارع الذي يحمل اسم واضع علم العروض قد أصبح في سنوات ما بعد الحرب رمزاً لصمود الثقافة في وجه الضجيج ومنصة حرة يلتقي فيها الكتاب بقرائهم دون حواجز. وفي هذا الفضاء المفتوح تعمل جماعة البصرة الأدبية التي اتخذت من المقولة الخالدة “عجبتُ من شرب ماء البصرة ولم يكن أديباً!” شعاراً لها، على نسج خيوط التواصل بين إرث المدينة الأدبي العريق وحاضرها الثقافي المتعطش للمعرفة.
الأدب: مرآة الروح ومطرقة الواقع
بدأ الأديب علي عبد الحسين حديثه بالابتعاد عن التعريفات التقليدية للأدب كفن للتسلية أو مجرد انعكاس للواقع. طرح عبد الحسين رؤية أكثر تركيباً معتبراً أن الأدب يؤدي وظيفتين متناقضتين ومتكاملتين في آن واحد: فهو مرآة الروح ومطرقة الواقع.
بحسب المحاضر فإن الأدب في وظيفته كمرآة يتيح لنا فرصة نادرة لرؤية أنفسنا ودواخلنا وخفايا مجتمعاتنا بوضوح لم نعهده. حين نقرأ رواية عظيمة قال عبد الحسين نحن لا نقرأ قصة شخص آخر بل ندخل في حوار صامت مع شخصيات تصبح جزءاً من وعينا تطرح علينا أسئلة لم نجرؤ على طرحها، وتجبرنا على فحص قناعاتنا ومواجهة تناقضاتنا.
أما وظيفته كمطرقة فتتجلى في قدرة الأدب على تشكيل الواقع وتغييره لا بشكل مباشر بل عبر إعادة تشكيل وعي الأفراد الذين يشكلون هذا الواقع. استشهد الأديب بأعمال أدبية عالمية وعراقية ساهمت في إثارة نقاشات مجتمعية كبرى وغيرت من نظرة الناس إلى قضايا الظلم الاجتماعي والحرية والوجود الإنساني. “الكلمة التي نقرأها اليوم .أضاف قد تصبح غداً فكرة والفكرة قد تتحول إلى موقف والموقف قد يغير مسار حياة بأكملها.
حوار الأجيال وتفاعل الجمهور
ما ميز الجلسة هو حيويتها وتفاعلها. لم تكن مجرد إلقاء من طرف واحد بل سرعان ما تحولت إلى حلقة نقاشية مفتوحة أدارها الأديب علي عبد الحسين ببراعة. طرح شاب من الحضور سؤالاً حول جدوى قراءة الأدب الكلاسيكي في عصر السرعة والمحتوى الرقمي السطحي، فأجاب عبد الحسين بأن الأدب العظيم لا يموت لأنه لا يخاطب زمناً بعينه، بل يخاطب الجوهر الإنساني الخالد. قراءة دوستويفسكي اليوم لا تقل أهمية عن قراءته قبل مئة عام لأن الأسئلة التي يطرحها عن الإيمان والشك والجريمة والخلاص هي أسئلتنا الأبدية
كما أثارت إحدى الحاضرات قضية دور الأدب في بناء التعاطف الإنساني في مجتمعات أنهكتها الصراعات. وأكد المحاضر على هذه النقطة، معتبراً أن الأدب هو أعظم تمرين على التعاطف. فهو يجعلك تعيش في جلد شخص آخر، تفكر بعقله وتشعر بقلبه. وهذه القدرة على فهم الآخر هي الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع متسامح ومتماسك
الأدب كضرورة لا ترف
اختتمت الجلسة بعد نقاشات امتدت لأكثر من ساعة ونصف تاركة في نفوس الحاضرين أثراً عميقاً وشعوراً متجدداً بأهمية الكلمة. لم تقدم الأمسية إجابات نهائية بل فتحت شهية العقل والروح للمزيد من الأسئلة والتأمل في الختام قدم الأديب علي عبدالحسين شكره الى الأستاذ حسين حميد البزوني مؤسس جماعة البصرة الأدبية على دوره في انجاح الجلسة الأدبية.
لقد نجحت جماعة البصرة الأدبية مرة أخرى في تأكيد رسالتها: أن الأدب ليس ترفاً فكرياً يمارسه النخبة في أبراجهم العاجية بل هو ضرورة حياتية وماءٌ لا غنى عنه لنمو الشخصية وبناء مجتمع قادر على فهم ذاته ومواجهة تحدياته. في ليلة بصراوية أخرى أثبتت المدينة التي أنجبت عمالقة الفكر والأدب أنها لا تزال وفية لعهد الكلمة، وأن ماءها كما قيل قديماً لا يزال ينجب الأدباء والأهم من ذلك ينجب من يصغون إلى الأدب.
