نعامة ناعمة !

الحرير/

بقلم/حسين الذكر

كم كنت احب مشاهدة الفنان عبد الله غيث ايام شبابه مرددا في احد مقاطع افلامه : ( فراخ فراخ .. كلكم فراخ ) .. في واحدة من مقتضيات هضم رسالة الفن التي لم تاخذ مديات الترسيخ الاجتماعي كثقافة تسهم ببناء الامة ورقي المجتمعات واهمية تحري سبل حرية التعبير كسبيل وحيد للمضي نحو الحقيقة ونيل شرف الحياة بظلها ليس كغاية مقدسة بل لسببية اقدس تتمثل في تطوير الانسان وحل اشكالات الحضارة .
كنا نسمع منذ الطفولة عن اساليب النعامة لحماية نفسها عبر دفن الراس باعماق الرمال عند الشعور بالخطر في محاولة للتخلص منه في واحدة من المشاهد الساخرة التي تحتاج التعمق بدراستها من اجل اكتشاف الحكمة في ذلك اكثر من الضحك عليها والتنمر بموجبها فان للخلق اسراره فضلا عن مبرراته التي اتضح ان اغلبها تعليمية انسانية قبل ان تكون انبطاحية حيوانية .
في واحدة من الازمات الشكلية في مظهرها الضاربة باطناب عمقها المجتمعي والقيمي والجيني حدثت اشكالية في عاصمة الخلافة الاسلامية مرو بزمن الخليفة المامون حينما دخل اتباع الامام علي بن موسى الرضا المدينة وهم يرتدون الزي الاخضر كشعار مميز لاتباع آل بيت النبي محمد فيما كان الخليفة ومؤيدو الدولة العباسية يرتدون الاسود شعارا لهم .. وبعد اخذ ورد وشد وجذب كاد يحدث خرقا امنيا جاء وزير المامون الفضل بن سهل بحل جريء وناعم قائلا : ( يا امير المؤمنين بما انهم لبسوا الاخضر دعنا نامر الجميع بلبسه بامر الخليفة واجب الطاعة ) . قطعا الفكر السهيلي قبل الاف السنين كان جزء من الحرب الناعمة التي بدا العالم الغربي يدرسها خلال عقود قريبة .
كنت في رحلة الى العاصمة سيؤول حينما دخلت كوريا الجنوبية مندهشا مما وجدته من ركائز حضارة ليس عمرانية فحسب بل قيمية ايضا تدل على عمق وتاريخ وتحلي فضلا عن تجلي الاكثر اثارة فيه انه لا يستند الى تعاليم دينية .
كنت اتفحص ما يدور حول مقر اقامة الوفد – بفضول اجده ضروري ويشكل جزء من كارزما وثقافة الصحفي حينما لفتت انتباهي بعض الباصات ينزل منها تلاميذ صغار في بناية مجاورة .. فاصطحبت المترجم مستطلعا والتقينا بالمديرة التي استقبلتني باحترام جم وتبجيل كوني صحفي باحترام للمهنة لم اجده في العراق ولا اي بلد عربي آخر.. فسالت المترجم عن سبب هذه الحفاوة فقال : ( اولا لانك اجنبي وهذا جزء من اخلاق الكوريين العامة .. وثانيا لانك صحفي اذ ننظر له ليس على انه مجرد ناقل للخبر ومتتبع للاحداث المثيرة بل صانع للحدث وقائد للراي العام ) . ثم سالت المديرة التي كانت تشرف على سفرة مدرسية لمتحف خاص بالتلاميذ : ( ما هو الدرس الذي تحرصي ان تعلميه لتلاميذك وان لم يكن جزء من المنهج التربوي العام )؟ .. فقالت بشكل قاطع : ( اعلمهم الصراحة .. فهي السبيل الوحيد للتخلص من آفة النفاق الاجتماعي علت العلل وسبب كل تخلف .. فانها تحمل صفات الجرأة والشجاعة والخلق الذي لا بديل عنه لصناعة وعي يجب ان يتحلى به الشعب اذا ما اراد الاستقلال والحرية والازدهار ) .
هنا تذكرت معاناة وصرخات الفيلسوف العراقي الراحل د علي الوردي الذي قضى جل عمره يبحث عن سبل وعي الامة وخلاصها من مظاهر النفاق الاجتماعي والتفريق بين الطقوس الشكلية والسلوكيات العملية بما سماه التناشز واثره على تطور المجتمع ورقيه .. يحكى بهذا الصدد ان المختار الثقفي حينما تم حصاره في قصر الخلافة بالكوفة من قبل مصعب بن الزبير خرج اليهم يمتطي فرسه ويشهر سلاحه بعد ان القى خطبة رنانة على قياداته التي فضلت تسليم سلاحها والكف عن القتال وقد أبدى استعداده للموت مما ادخل الرعب في قلب ابن الزبير الذي خشى ان يطلب منه المختار مبارزته فطلب من مستشاريه ايجاد مخرجا لهذا الاحراج .. فصاح احد مستشاريه بصوت عال – باروع استخدام للسلاح الناعم – : ( جاء الحق وزهق الباطل ) لتردد معه الاف الحناجر بصوت واحد مما ضيع صوت المختار الذي حدد مصيره الى الابد .
همس باذني احد المثقفين العرب شاكيا عما يدور في مجتمعاتنا العربية من تعاطي خاطيء مع شريحة الشباب : ( ان العامة يهزأون بالشغيلة من الشباب : ( فهم يستصغرون ويحقرون عمالهم : ( تعال يحمار روح يحمار ) .. وحينما يترك الشاب العمل يتغير الخطاب حوله : ( كان شابا وسيما مطيعا شاطرا .. في تناشز اخلاقي فضيع ).
كنت القي محاضرة في احدى الدول العربية عن التوظيف الاعلامي .. كان بين الحضور قائدا عسكريا فطلب المداخلة ، سائلا : ( هل اجبتني بصراحة عن محور رسالتك التي تريد ايصالها لهذا الحضور الكثيف .. وهل تطرقت الى الوضع السياسي في البلد بصراحة ) .. فقلت له : ( اولا انا ضيف على الدولة .. ولا يمكن ان اطعن بإجراءات متشابهة بجميع الدول .. فضلا عن كون محاضرتي تم الاطلاع عليها مسبقا مع سيرتي وتوجهاتي .. وان كنت كما تريد .. فما كان يسمح لي بالقاءها اطلاقا باي بلد عربي .. فكما يقول الفنان عادل امام : ( لو كل حد تسكن فوقه رقاصة لسكن الشعب كله في الشوارع ) .. في واحدة من نوادر شطحات الفن العربي التي قيلت في زمن كان يتطلب شيء من الجرأة المعجونة بالهزل حد السخرية وضرورة تمريرها .

عن عامر العيداني

شاهد أيضاً

البصرة بين حصار مالي وقرارات جائرة.. أين العدالة الاتحادية؟

الحرير/ بقلم/ عامر جاسم العيداني تعيش محافظة البصرة هذه الأيام واحدة من أشد أزماتها الاقتصادية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *